هل حدث وأن التقيت بشخص جديد، تحدثتما، تبادلتما الحديث والابتسامات، ثم حين التقيتما مرة أخرى… لم يتذكّرك؟ وكأنك لم تكن. وكأن وجودك لم يترك أثراً، لا صوتاً، ولا صورة، ولا حتى شعوراً مألوفاً.
هذا الموقف، البسيط ظاهريًا، يمكن أن يوقظ عاصفة داخل النفس.
أن يُنسى الإنسان، ليس فقط من الأصدقاء، بل حتى من العابرين، يخلق داخله سؤالًا مخيفًا: “هل أنا غير مرئي؟ هل وجودي خفيف لهذه الدرجة؟”
جذر الشعور: الحرمان العاطفي القديم
في عمق هذا الألم، غالبًا ما يكون هناك حرمان عاطفي لم يُفهم بعد.
الطفل الذي لم يُحتضن بما يكفي، لم يُحتفى بحضوره، لم يُشعر بأنه مهم أو مُلاحظ، يكبر وهو يشعر بأن عليه أن يتوارى… حتى لا يُرفض.
يصبح هدوءه قناعًا. وتواضعه انسحابًا. وصمته صرخة لا تُسمع.
هذا النوع من الأشخاص لا يحضر بقوة في المكان، لأنه تعلّم منذ الصغر أن الظهور قد يكون مؤلمًا.
لكن النتيجة المؤلمة أنه لا يُلاحظ. لا يُتذكّر. لا يُسأل عنه.
وحين يُقابل بالنسيان، تتكرر الجراح القديمة، ويعيد العقل ترميم الصورة ذاتها:
“أنا غير جدير بأن يُتذكّرني أحد.”
يقول الأديب الروسي دوستويفسكي: “إن أشدّ أنواع الوحدة هي أن يشعر المرء بأنه غير ضروري.”
وهذا بالضبط ما يشعر به الطفل الذي لم يُحتفَ بوجوده… إنه موجود، لكنه غير ضروري، لا أحد يفتقده، وكأن العالم لا يتأثر بوجوده أو غيابه.
ففي أعماق كل إنسان بالغ، يعيش طفل صغير لا يزال ينتظر أن يُحتضن، أن يُرى، أن يُقال له: “أنت مهم … وجودك مهم .. أنا أراك.”
ولكن، ماذا لو لم يحدث ذلك يومًا؟
ماذا لو كان هذا الطفل قد نشأ في بيئة لم تلتفت إليه، لم تُشعره بأنه مرئي، وكأن وجوده لم يكن كافيًا ليُثير اهتمام أحد؟
هذا ما يُسمى الحرمان العاطفي.
يقول كارل يونغ:
“الحرمان في الطفولة لا يختفي، بل يتحوّل إلى أنماط خفية تُدير حياتنا وعلاقاتنا دون أن نشعر.”
وهنا تكمن خطورة الحرمان العاطفي: أنه يتحكم بنا من الظل.
حسنآ .. ما هو الحرمان العاطفي؟
هو غياب التجاوب العاطفي العميق في الطفولة،
غياب من يقول لك “أنا فخور بك”…
من ينظر في عينيك ويشعر بك دون أن تتكلم،
من يحتفل بوجودك، لا بإنجازاتك فقط.
الطفل الذي لا يُرى، لا يُسمَع، لا يُحتَضن،
يكبر وهو يعتقد أن عليه أن يكون “أفضل” حتى يُحب،
أن عليه أن يصمت حتى لا يُزعج،
أن عليه أن يختفي حين يشعر بالحزن… لأن لا أحد يهتم.
يقول فيكتور فرانكل (الطبيب النفسي الناجي من معسكرات النازية):
“الإنسان لا يحتاج فقط إلى حياة خالية من الألم، بل إلى معنى يعيش من أجله، ومعنى أن يُحب ويُرى.”
وهذا ما يفقده الطفل المحروم: أن يشعر بأنه يستحق الحب لمجرد أنه موجود.
كيف ينتقل هذا الجرح إلى البلوغ؟
الطفل الذي لم يُرَ…
يصبح بالغًا يبحث عن الانتباه من كل من لا يمنحه إياه.
ينجذب للعلاقات التي تعيد له شعور التهميش،
يطلب الحب من أشخاص لا يعرفون كيف يحبون،
ويظل داخله صوت خافت يقول:
“أنا مش كافي … عشان كذا محد يتذكرني.”
و في العلاقات:
يصبح حساسًا جدًا لأي تجاهل بسيط.
يُبالغ في العطاء كي لا يُنسى.
ينسحب بسرعة عندما يشعر بعدم الأهمية، حتى قبل أن يتأكد إن كان فعلاً غير مهم.
ويخاف من طلب الحب، لأنه لا يعتقد أنه يستحقه.
خطوة نحو التغيير: هل تسمح لنفسك بأن تُرى؟
الاعتراف بالجذر هو بداية التحرر
أول خطوة للشفاء، هي أن تعترف أن هناك “طفل داخلي” لا يزال يتألم.
طفل لم يُرَ… لكنه الآن بين يديك.
أنت البالغ الذي يستطيع أن يراه، ويعانقه، ويقول له:
“أنا معك… ولن أتجاهلك بعد اليوم.”
فحين تدرك الجرح، تتغير نظرتك لكل شيء:
علاقاتك، اختياراتك، وحتى نظرتك لنفسك.
لكن الإدراك وحده لا يكفي…
لا بد من إعادة البناء: بناء علاقة جديدة مع النفس أولًا، ثم مع الآخرين
عليك أن تعيد بناء العلاقة مع نفسك أولاً،
أن تُسمع صوتك لنفسك قبل أن تطلبه من الآخرين،
أن تتذكّر مشاعرك، وتُقدّرها، وتسمح لها أن تكون.
في النهاية، التقدير يبدأ منك.
حين تُقدّر وجودك، وتشعر بأنك جدير بأن تُحب، بأن تُسمع، بأن تُرى…
سيشعر بذلك من حولك، حتى دون أن تقول شيئًا.
“كيف نعيد بناء علاقاتنا بعد أن ندرك جرح الحرمان العاطفي؟”
الخطوة الأولى: التوقف عن طلب الحب من حيث لا يأتي
الكثيرون منا يُسقِطون احتياجاتهم الطفولية على علاقاتهم،
فنطلب من الشريك أو الصديق أو الزميل أن “يرانا” بنفس الشكل الذي لم يُرَ به الطفل داخلنا.
لكن هذه محاولة محفوفة بالخذلان، لأنها تعيدنا إلى نفس الجرح.
الحل؟
أن نميز بين الحب الحقيقي…
وبين محاولات تعويضية نُرهق بها أنفسنا.
الخطوة الثانية: ترميم العلاقة مع الذات
قبل أن تُطالب الآخرين بأن يلاحظوك، اسأل نفسك بصدق:
هل تسمح للناس برؤية حقيقتك، أم تخبئها خوفًا من الرفض؟
هل تتصرف بطريقة تُقلّل من وجودك دون وعي؟
هل تضع نفسك في علاقات لا تعكس قيمتك الحقيقية؟
هل تلاحظ نفسك؟
هل تسمح لنفسك بالحزن؟ بالفرح؟ بالغضب؟
هل تمارس الحب الذاتي كأولوية لا كترف؟
ابدأ بكتابة رسائل للطفل الذي بداخلك.
قل له:
“أنا آسف لأنني أنكرْتُك…
لكنني الآن أراك… ولن أسمح أن تُنسى مرة أخرى.”
الخطوة الثالثة: اختيار علاقات “المرآة” لا علاقات “التمويه”
ابحث عن أشخاص يرونك، لا فقط يستهلكونك.
لا تختر العلاقة التي تُشعرك بأنك مضطر لتُثبت نفسك كل لحظة ( هذه العلاقات بالذات اهرب منها و لا تلتفت ولا ترجع لها ).
ابحث عن العلاقة التي ترتاح فيها إلى درجة “الصمت”… دون أن تُنسى.
الخطوة الرابعة: التواصل الآمن
تعلّم كيف تعبر عن احتياجك دون خجل.
تعلّم أن تقول:
“أشعر بالتجاهل، وهذا يؤلمني.”
“أحتاج أن أشعر بأنني مهم بالنسبة لك.”
“أنا موجود، وأحتاج من يشاركني وجودي.”
الجرح لا يُشفى بالصمت… بل بالبوح الصادق.
الخطوة الخامسة: بناء ذاكرة شعورية جديدة
كل تواصل آمن، كل علاقة تحترمك،
كل لحظة يُرى فيها وجعك،
تُعيد تشكيل الجهاز العصبي داخلك…
وتقنع الطفل القديم بأن العالم لم يكن كلّه ظالمًا.
ختام: الشفاء ليس أن تُنسى الجراح… بل أن تُمنح معاني جديدة
ليس الهدف أن ننسى الطفولة التي لم نُرَ فيها،
بل أن نُعيد كتابة سرديتها بوعي،
أن نكسر الحلقة،
أن نرى أنفسنا،
ثم نمنح الآخرين فرصة رؤيتنا… لا استجداءً، بل حضورًا واثقًا.
أنت تستحق…
أن تُرى،
أن تُفهم،
أن تُحب،
وأن تُعاد كتابتك، من الداخل أولًا.
الصورة الظاهرة في التدوينة تم توليدها عن طريق أداة الذكاء الإصطناعي Leonardo
اكتشاف المزيد من مدونة العم شكيب
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.