ثمة جُمل لا تُقرأ فقط، بل تُسكن… كلمات تدخل قلبك لا كعبارات، بل كأصوات تشبه صوتك الداخلي الذي لطالما أردتَ أن تعبّر عنه ولم تستطع.
من بين هذه العبارت التي تمزق القارئ من الداخل، تأتي هذه العبارة للكاتب الأمريكي هنري ميللر (1891–1980) أحد أبرز الكتاب الذين تناولوا موضوعات الاغتراب و الصراع الداخلي في أعمالهم الأدبية حيث فضفض قائلآ:
“لقد رفضتني كلّ الأشياءِ التي أردتُها، ورفضتُ أنا ردًّا عليها كلّ الأشياء التي أرادتني، وإلى الآن لم ألتقِ أنا والحياة في نقطة…”

وهذا الاقتباس العميق هو بالضبط من هذا النوع؛ ليس مجرد تعبير عن حزن عابر، بل تصوير متقن لحالة نفسية ـ وجودية اسمها “الحرمان العاطفي المزمن.” .. حالة يعيشها كثيرون دون أن يجدوا لها اسمًا أو تعبيرًا.
يُعبّر هذا الاقتباس عن شعور الاغتراب الوجودي والصراع الداخلي بين الرغبة والواقع. وهو يعكس حالة يعيشها بعض الأشخاص ممن يشعرون بأن هناك دائمًا فجوة بينهم وبين الحياة التي يتمنونها — وكأنهم دائمًا في توقٍ، لكن لا شيء يكتمل.
نعم، هذا النص يحمل في أعماقه صرخة شخص يعيش الحرمان العاطفي، لكن بصوت هادئ، مكسور، لا يبحث عن الشفقة، بل عن تفسير لهذا الانفصال العميق بينه وبين الحياة.
دعني أقدّم لك تحليلًا نفسيًا –عاطفيًا دقيقًا:
“لقد رفضتني كلّ الأشياءِ التي أردتُها…”
هنا يظهر الجرح الأساسي:
الشعور المتكرر بالرفض.
هذه العبارة ليست مجرد سرد تجربة، بل إعلان عن نمط عاطفي متكرر: كل ما رغبه الكاتب، سواء أكان حبًا، دفئًا، قبولًا، فرصة، أو حتى أمانًا… تلاشى أمامه.
وهذا النمط يولّد ما يُعرف في علم النفس بـ”جرح النقص” أو “حرمان التعلّق”.
“ورفضتُ أنا ردًّا عليها كلّ الأشياء التي أرادتني…”
هذه العبارة تعبّر عن آلية دفاعية نفسية.
حين يشعر الشخص بأنه مرفوض باستمرار من الحياة، يبدأ هو أيضًا برفض كل ما يقترب منه، ليس لأنه لا يريده، بل لأنه يخشى أن يخسره لاحقًا.
في حالات الحرمان العاطفي، الارتباط يصبح خطرًا، لأنه يذكّر الشخص بألمه القديم، فيختار الرفض بدلًا من التعلّق والخوف من الفقد.
“وإلى الآن لم ألتقِ أنا والحياة في نقطة…”
هذه هي الخلاصة الوجودية للشعور بـــ الحرمان العاطفي:
أن الشخص يعيش، يمشي، يتنفّس…
لكنّه لا يشعر أنه التقى فعليًا بالحياة.
لم يتذوّق طعم الراحة، ولم يعرف معنى الطمأنينة، ولم يحتضنه العالم يومًا كما يحتضن من يشعر أنه في وطنه.
لماذا يحصل هذا؟
1. توقعات عالية مقابل واقع معقّد:
من يعانون من هذه المشاعر عادةً ما يحملون رؤى مثالية عن الحياة، الحب، النجاح… ولكن الواقع لا يلبي هذه التوقعات، فيتحوّل الشغف إلى خيبة، والرغبة إلى نفور.
2. تجارب الرفض أو الخسارة المبكرة:
من مرّوا بخبرات رفض مؤلمة في الطفولة أو المراهقة غالبًا ما يحملون شعورًا داخليًا بأنهم غير مستحقين للحب أو النجاح، حتى لو بدوا أقوياء من الخارج.
3. الخوف من الالتزام أو فقدان الحرية:
بعض الأشخاص حين يواجهون شيئًا “يريدهم”، يخافون من فقدان استقلاليتهم، فيرفضونه كوسيلة دفاعية، حتى لو كانوا بحاجة إليه.
4. متلازمة المُعاناة العاطفية المزمنة:
بعض الأشخاص يشعرون بأنهم لا يستحقون الفرح، فيسعون لا شعوريًا إلى رفض كل ما يجلب السعادة.
5. اضطراب الهوية أو الشعور بالضياع:
عدم معرفة الذات بعمق يؤدي إلى تخبط: ما أريده يرفضني، وما لا أريده ينجذب لي… لأنني ببساطة لا أعرف من أنا وما الذي أحتاجه فعلًا.
الخلاصة النفسية:
يعكس هذا النص شخصية مرّت على الأرجح بـ:
تجارب حب غير متبادلة أو انتهت بالخذلان.
طفولة شعرت فيها بعدم الاحتواء أو التقدير.
محاولات متكررة للاندماج قوبلت بالإقصاء.
تطور آليات نفسية دفاعية مثل الانسحاب، أو تجاهل الحاجات العاطفية.
لكن في عمقه، هناك رغبة هائلة باللقاء، رغم كل الصدّ.
هو لا يزال ينتظر أن يلتقي بالحياة، فقط في نقطة…
واحدة.
خصائص نفسية وعاطفية شائعة لهؤلاء الأشخاص:
حساسية مفرطة تجاه الرفض أو الخذلان
تأمل عميق وأسئلة وجودية مستمرة
ميل للعزلة أو الانسحاب العاطفي
ازدواجية في المشاعر (أحب وأهرب – أشتاق وأدفع بعيدًا)
تقدير ذاتي متأرجح أو هش
قدرة فنية أو فكرية عالية (غالبًا أشخاص مبدعون أو مفكرون)
إذا كنت تشعر أنك أو أحد تعرفه يمر بهذه الحالة، فالأمر لا يعني أنك “خاطئ” أو “مكسور”، بل يعني أنك تحمل عمقًا إنسانيًا نادرًا يحتاج إلى فهم، لا إصلاح.
هل من شفاء؟
نعم.
لكنه يبدأ من الداخل… من مواجهة تلك التجارب القديمة، ومن الاعتراف أنني لطالما كنت أهرب لأني كنت خائفًا، لا لأني قوي.
الشفاء يبدأ حين تقرر أن تتوقف عن تكرار أفعال الحياة ضدك، على نفسك.
حين تعترف أنك تستحق الحب، حتى لو لم يعطه لك أحد في البداية.
وحين تمنح لنفسك الفرصة أن تلتقي بالحياة… ليس كاملة، لكن فقط في “نقطة” صغيرة، تكبر ببطء مع الأيام.
في النهاية
هذا النص ليس مجرد تأمل شخصي، بل مرآة لكثيرين يشعرون بأنهم غُرباء وسط الزحام، بأنهم يريدون الحياة، لكن لا يعرفون من أين يمسكون بزمامها.
إذا كنت واحدًا منهم… فأنت لست وحدك.
وهذه الكلمات هي محاولتي لأن أقول لك:
ربما لم تلتقِ الحياة بعد،
لكن الحياة قد تكون في الطريق إليك.
فقط… لا ترفض الباب حين يُطرق هذه المرة.

اكتشاف المزيد من مدونة العم شكيب
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.